مارست الحكومة السودانية، منذ منتصف مايو/أيار الماضي، هوايتها المفضلة بإثارة قضية برعت في صناعتها مائة بالمائة. قضية لشخص واحد باسمين، الدكتورة مريم يحيى إبراهيم، وفق الاسم الذي عرفت به عالمياً، واسم المواطنة أبرار محمد الهادي، وفقاً للتسمية الحكومية الرسمية لمريم، كما وردت في بيانات وزارة الخارجية السودانية. قضية مصنوعة تماماً، كما برعت الحكومة السودانية في صناعة قضية دارفور من قبل، وساهمت في تطورها، حتى غدت مأساة إنسانيةً، ومعضلةً تشغل بال العالم. ابتدعتها، كما برعت الحكومة السودانية أيضاً في صناعة التردّي الذي بلغه السودان، والذي بات يمثل مشكلةً دوليةً مستدامة، كيفما قلبت حاله.
لا تتناول السطور التالية هذه القضية من الزاوية الدينية والفقهية، ولكن ثمة ما يلفت النظر، ويستوقف المراقب بين ثناياها، فمجدداً تمثل امرأة سودانية أمام القضاء في بلادها، في قضية مثيرة للجدل، فيوحي تكرار محاكمة النساء في السودان بأن هذا الأمر هدف تصبو إليه الأجهزة الأمنية والقضائية والحزب الحاكم بترصد واستماتة. فقد رأينا، في السنوات الماضية، تعقب السلطات الحكومية ناشطات حقوقيات أو سياسيات وصحافيات، وتوجيه اتهامات قاسية لهن، غالباً أخلاقية أو دينية، فيُجرجرن إلى أقسام الأمن ويحلن إلى السجون، وهذه صورة مستجدة، لم تحدث طوال تاريخ العمل العام والسياسة في السودان. شهدت السنوات القليلة الماضية عدة حالات لنساءٍ، تعرضن للجلد، وجرى ضربهن بقسوة، ضجرت منها مواقع “يوتيوب” لفظاعتها.
لبنى حسين image
المدرّسة البريطانية، جيليان جيبنز، أثيرت بشأنها، في العام 2007، قضية تفهمتها كل شرائح السودان المجتمعية، والمتسامحة بطبعها، إلا الحكومة. اتهمت جيليان من السلطات السودانية بالإساءة للإسلام والتحريض على الكراهية، وانتهى الأمر إلى إطلاق سراحها. ثم أثيرت قضية الصحافية، لبنى حسين، لارتدائها ما سمّته الحكومة زياً فاضحاً، وضحك أهل السودان، ثانيةً، لإحساسهم برغبة حكومية في إثارة قضية وحسب، ضد ناشطة صحافية وسياسية، ثم تدخل المجتمع الدولي، وانتهى الجدل بالإفراج عنها.
وفي سبتمبر/أيلول 2013، حوكمت الناشطة في مجال حقوق المرأة، أميرة عثمان، بتهمة ارتداء الزي الفاضح، بموجب قانون النظام العام. ودافعت أميرة عن نفسها بقولها إن “القضية ليست قضية امرأة، لأن المرأة لن تقيّمها قطعة من القماش، والمرأة هي الأم والأخت والقاضية والمهندسة، وقيمة الإنسان في عقله”.
وذكرت أميرة أن الشرطي سألها عن سبب عدم ارتدائها الطرحة، فردت بأنها ليست محجبة، قبل أن يحولها الشرطي إلى النيابة، لمحاكمتها، بموجب المادة 152 من قانون النظام العام. وفي أكتوبر/تشرين الأول من العام نفسه، قدمت الناشطة والروائية السودانية، رانيا مأمون، للمحاكمة، بتهمة صفع شرطي وإلقاء الحجارة على أفراد الشرطة في أثناء التظاهرات الغاضبة في مدن السودان على زيادة أسعار المحروقات. وتوضح الصورة، في مجملها، تعمد الأجهزة الأمنية، على اختلاف مسمياتها، وبشكلٍ يبدو منظماً، لملاحقة الناشطات والفتيات ممن تعتبرهن يرتدين “زياً غير شرعي”، وتوجه لهن تهمة الزي الفاضح. كما تلاحق بائعات الشاي من النسوة ممن ضاقت بهن السبل، وامتهنَّ بيع الشاي أو القهوة، لتأمين حاجة أسرهن. لا اعرف نوع النشاط الذي تقوم به الطبيبة مريم إبراهيم، لكن المؤكد أن مثل هذه القضايا، باستثناء حالة الإنجليزية، تمت تجاه ناشطات، بغية توجيه رسالة قوية، مفادها أن القمع الذي تمارسه الحكومة السودانية لا يستثني حتى النساء. وتعكس المبررات التي تسوقها الأجهزة ضجراً كبيراً لدى الدولة السودانية من اتساع النشاط النسوي، وبشكل يفوق كثيراً غيرهن من الفئات الاجتماعية التي يطالها عنف جسدي أكبر كثيراً.
وفي حالة مريم، تحمل القضية مشاعر عنصرية كثيرة، تغذّيها الدولة في ممارساتها التي باتت تضع القبلية ضمن الأجندة الرسمية، في التعامل على أساس قبلي ابتداء. والعنصرية هنا تتمثل في أن العقلية العربية في السودان لا تستطيع بلع أن فتاةً، سودانية شمالية أباً، لأن الأم في الأساس إثيوبية، تزف إلى جنوبي ومسيحي. تاريخياً مثل هذه الزيجات كثرت حالاتها لرجال أوروبيين مسيحيين ولفتيات سودانياتٍ من عائلاتٍ معروفة، لكن الأمر لم يثر اعتراضاً. ولو أخذنا حالة مريم في سياق طبيعي، لوضعت في خانة التمازج الاجتماعي في شرق السودان وغربه، والذي كان جنوبه من قبل.
image أميرة عثمان
تاريخ السودان الاجتماعي مليء بزيجاتٍ مختلطةٍ، لم تتوقف لحظةً عند العرق والدين، وخصوصاً في مناطق التماس في شرق السودان، حيث يختلط الدم الإثيوبي المسيحي بالسوداني المسلم، ودم الجنوبية اللادينية ودم الشمالي ودماء عرب النيل الأبيض والدينكا. وتناسلت من ذلك أجيالٌ من “خاطف اللونين”، كما يتندر السودانيون. وأدرجت في الثقافة الاجتماعية والفنية، ووجدت قمتها في جملةٍ من الأغاني والأشعار، واكتسبت رواجاً، كما في حالة أغنية مادلينا التي تغنى بها المطرب المعروف، النور الجلاني، وما زالت تلقى رواجاً منذ منتصف السبعينيات. وكما توصف كلمات الاغنية عن المحبوبة: “مالدينا الأم سليلة أمهرة والأب من قلب أثينا”، أو أغنية ميري الجنوبية.
وتتم الزيجات المختلطة بعيداً عن الضجيج والصخب. والزواج المختلط، أو حتى الإنجاب خارج النطاق الشرعي، خلف في السودان، بكل اتجاهاته، أجيالاً بعضها بلا نسب، وبعضها شأن مريم، والد يهجر أسرته ويتركها في رحم المجهول. زيجات كان أبطالها، ولا يزالون، من كبار موظفي الدولة، أو التجار الذين تحملهم ظروف العمل في بلد مترامي الأطراف سنوات في شرق السودان أو غربه أو شماله أو جنوبه سابقاً.
عودة إلى حالة مريم، قد يبدو غريباً لبعضهم الحديث عن علاقة قائمة، شبه قوية بينها وبين قضية دارفور. والشبه في الموقف الغريب الذي اتخذته الدولة السودانية في الحالتين، إذ اتخذت الخيار الخاطئ، واصطنعت قضية مهولة من لا شيء. فلو أنها اتخذت الموقف التقليدي والتاريخي للدولة، حكماً في القضية بين طرفين تاريخيين في الصراع، لكانت مشكلة دارفور اتخذت منحىً آخر مختلفاً. الشيء نفسه يمكن قوله في حالة مريم، إذ جعلت الدولة القضاء مطية لتحقيق أهداف حزبية بامتياز، وتغليب رؤيةٍ ضيقة، وتقديمها في لبوس ديني، متجاهلين التأثيرات الخطرة والضارة التي قد تثير الضغائن، وتتسع دائرة الاتهام، لتشمل مكونات اجتماعية بكاملها. ثم إن الشارع الذي قصدوا تذكيره بأن الدولة الإسلامية الحضارية حادبة على الدين في السودان، اهتمت بقضية مريم، وهي مجرد تفصيل هامشي جداً أمام نهب المال العام، وأبطاله من قيادات الدولة، وبالضرورة من قادة الحركة الإسلامية، من وزراء وولاة ومن حولهم من أكوامٍ، عشش فيها الفساد، وبلغ درجة لا تطاق. وهنا المفارقة، إن من يسرق مالاً عاماً بأرقام مخيفة، يجدون له فتوى سريعة “التحلل” والبراءة. وفي المقابل، يتم التمسك بإقامة الحدود، وتطبيقها بكثيرٍ من روح التشفي والانتقام، أكثر منه لأهداف تربوية دينية سامية. رانيا مأمون image
مهما كان الأمر، كانت نهاية قضية مريم مثل سابقاتها، البراءة وإلغاء حكم الإدانة. ومن هنا، تطرح جملة أسئلة من قبيل ما إذا أصبح الدين ورقةً، تساوم بها الحكومة السودانية لتحقيق أهداف سياسية دولية، كما ورد في بيان الخارجية السودانية، عقب براءة مريم مباشرةً، “تود وزارة الخارجية تذكير المجتمع الدولي بالظلم المتصل الذي يتعرض له 35 مليون سوداني، جراء العقوبات الأحادية الظالمة التي تفرضها حكومة الولايات المتحدة على السودان منذ 17 عاماً، من دون سند من القانون، أو مبادئ حقوق الإنسان، أو الأعراف الدولية”.
هل كان هذا الهدف الحقيقي وراء القضية؟ وهل يمكن الوثوق في نظامٍ قضائيٍّ، بات لا يملك القدرة على تمحيص قضاياه ودراستها، ومدى قانونيتها ومشروعيتها، بحيث تحولت كل القضايا مهازل، ووجهت أصابع الاتهام صريحة بشأن مدى استقلالية القضاء، وتحوله أداة سياسية، لخدمة أهداف الحزب الحاكم. نسف قرار محكمة الاستئناف القضية الموجهة لمريم، فلا هي مرتدة ولا هي مسلمة. ويبقى السؤال الكبير ما إذا كانت مريم، والردة تحديداً، حالة منفردة، أم صارت توجهاً مخيفاً في السودان. وقد أكد هذا التوجه على وجوده، وعلناً وبانزعاج ساسةٍ معروف عنهم توجهاتهم الإسلامية، مثل الصادق المهدي، أو نائب رئيس الحزب الاتحادي الديمقراطي السابق، علي محمود حسنين. كلاهما ألقى باللوم على “تصرفات النظام وممارساته”. تُرى، من تكون الضحية القادمة من بين الناشطات في السودان، وما موضوع المساومة المقبلة؟