قراءة في خطاب الرئيس البشير إنتظرت بفارغ الصبر مع كل السودانيين خطاب الرئيس البشير، والذي تم الترويج له لمدة من الزمن على أنه “خطاب مهم” موجه للأمة السودانية!! وبعد إنتهاء حديث الرئيس بدأت تتشكل لدي إنطباعات عديدة سأتناولها بالتفصيل والتحليل، لكن الصورة التي تكونت في ذهني مع نهاية الخطاب ذكرتني بالبروفايل الذي رسمه الكاتب قابرئيل قارسيا ماركيز لأسطورة الحرب الأهلية في أمريكا اللاتينية الكولونيل (العقيد) أورليانو بوينديا، في رائعته “مائة عام من العزلة” والحائزة على جائزة نوبل للآداب عام 1982، ــ مع فارق المقارنة بالطبع ـــ حيث وصفه على النحو التالي: “العقيد أورليانو بوينديا، خاض إثنتي وثلاثين إنتفاضة مسلحة غُلب فيها جميعاً.. تمرغ في وحل المجد كخنزير وعاد بعد أربعين عاماً ليتعلم فضائل البساطة” …. فهل عاد البشير بعد ما يقرب الربع ليتعلم فضائل البساطة؟؟!! (1) الحضور: الملاحظة أن كل الحاضرين يمثلون التيارات اليمينية أو التيارات ذات الخلفيات الدينية: الحركة الإسلامية بكل تياراتها المتصالحة والمتخاصمة وحتى الواقفون في منزلة بين المنزلتين كحسين خوجلي، حزبي الأمة والإتحادي الديمقراطي بكل فروعهما. غابت التيارات الشبابية والقوى ذات الخلفيات العلمانية عن هذا المنتدي. وسيظل مطلوباً معرفته أن كانت هذه التيارات غابت بمحض إرادتها أم تم تغييبها عن قصد وعمد. وحتى ذلك الحين، سيبقى في الذهن أن هذا محفل وحوار يخص فقط القوى اليمينة، مهما حاولت دبلوماسية الخطاب في دعوتها لشمولية الحوار، أن تضفي عليه صفة القومية. ولا نريد أن نستبق الخطوات، لكن وكما يقال في السودان “الجواب يكفيك عنوانو”، فهذا المحفل له ما له وتحته ما تحته، وظاهره أنه إعادة ترتيب لقوى اليمين أو تيارات الإسلام السياسي بمختلف مدارسها على أساس خطاب جديد بداء يتشكل على خلفية إنهيار تجربة الإسلام السياسي في السودان وعلى واقعية مخافة تفتت الدولة السودانية البادية في الأفق المنظور. (2) أسس ومحاور الخطاب: كل ما يمكن الخرووج به من خطاب الرئيس أربعة ملاحظات مركزية. الملاحظة الأولي: لغة الخطاب وسياقه: هذا الخطاب إختلف عن كل الخطابات التي تعودنا على سماعها للرئيس البشير منذ بدية الإنقلاب وحتى هذا التاريخ، فقد غابت عنه لغة ومفردات قاموس الإسلام السياسي التي ضجت بها الحقبة الماضية، فخلا من الإكليشهات النمطية مثل: ” المشروع الحضاري، ثوابت الأمة، الدين، الشريعة، الهوية العربية…إلخ وقد بدى ذلك واضحاً على وجوه الحاضرين خاصة د. الترابي وغازي صلاح الدين العتباني، ولست أدري إن كان ذلك من هول الدهشة لمفارقة الخطاب، أم أن القوم كانوا على علم ويتوقعون المزيد الذي لم يأتي. ومع ذلك يبقى هذا الخطاب غير معتاد ومناقض للأسس النظرية التي قادت ووجهت مسارات الحكم وخياراته بالنسبة للحركة الإسلامية السودانية والمؤتمر الوطني طوال الثلاث وعشرون عاماً الماضية، وتضع المتابع للشأن السوداني والتيارات الإسلامية على وجه الخصوص أمام السؤال المحوري: هل هذا الخطاب هو ناتج ظرفي Circumstantial لتوازن معادلة الضغوط التي مارستها ومازالت تمارسها القوى الدولية والإقليمية، عبر فرضيات التسوية التي تطرحها “عملية الهبوط الناعم” Soft landing في مقابل الخروج الأمن للمؤتمر الوطني وقادته. أم أن الأمر هو مراجعات ونقد حقيقي تمارسه الحركة الإسلامية والمؤتمر الوطني على خلفية المستقبل القاتم الذي وضعت فيه البلاد والعباد؟؟ الملاحظة الثانية: قضية السلام: تناول الخطاب الدعوة للسلام وأيضاً كانت لغته لغة مفارقة، وقد سمعنا وطوال الفترة الماضية عن “سلام العزة”، “وسلام القوة”، “والسلام من الداخل”… وإلخ من المصطلحات الفارغة المضمون، ولأول مرة يرد في هذا الخطاب الحديث عن السلام من دون أي أوصاف، وهكذا بشكل تجريدي، وهذا تقدم إيجابي يخرج ــ على الأقل ـــ بقضية السلام من حيث المفهوم ــ كما طرحت في الخطاب ــ إلى فضاءات محايدة. صاحبت طرح قضية السلام في الخطاب حيثيات شددت على أهمية مشاركة الجميع وعدم جدوى الإقتتال. ويظل ذلك أمراً محموداً في منطوق الخطاب، لكنه سيظل حديثاً معلقاً في الفراغ إلى أن تتحقق شروط عدة تقف على قمتها قضية المشاركة الكلية في هذه العملية، والتي ظهر منذ البداية ومن خلال هذا التجمع أنها غير متوافرة. الملاحظة الثالثة: القضية الإقتصادية حيث أشار الخطاب إلى ضيق المعيشة التي تعتصر المواطن، ومع تقديرنا لهذا الاعتراف الذي لا معنى له في حدية وصرامة التحليل، غير أننا كنا نتوقع أن ينحي في إتجاه طرح عناوين بارزة وموجهات حقيقة لمعالجة أس المشكل الإقتصادي بدلاً من تناول مشكلة الفقر وضيق المعاش، لأنها في نهاية التحليل نتيجة ومظهر لسياسات التمكين التي حطمت البنية الإقتصادية المادية وعلاقاتها طوال الفترة الماضية وأفرزت تراتبيات إجتماعية جديدة تستدعي ضرورة إعادة النظر فيها. وعلى خلفية الدعوة لهذا الخطاب الموسومة بالأهمية البالغة فقد كان المرء يتوقع أن تكون اللغة حديثاً مباشراُ ومرقماً عن برتوكولات لإستعادة وتوطين المؤسسات الإقتصادية مرة أخرى وإخراجها من نفق التمكين إلى فضاءات المشاركة الحقيقية وعدالتها المسنودة والمحمية بالقوانين. تعلمنا التجربة والمعرفة الإنسانية المتراكمة أن الحديث عن النتائج ووصف المظاهر الطافية لا ينتج على الاطلاق حلولاً ذات جدوى. عليه؛ سيبقى مضمون خطاب الرئيس في هذا الجانب لا يقف على ساقين مهما حاولنا إيجاد تبريرات له في السياق العام للأزمة. الملاحظة الرابعة: قضية الهوية: لأول مرة يتم تناول الحديث في هذه القضية إنطلاقاً من زاوية الدعوة بالعودة للتاريخ السوداني وإستلهامه ليكوّن هويتنا !!، وهي أيضاً لغة جديدة على هذا الخطاب، الذي ظلت تروُّج له وتسوقه الحركة الإسلامية، بما فيها النظام الحاكم، بإعتبار أن التوجهات العربية الإسلامية تمثل الهوية الجامعة لكل السودانيين وهي ثابت لا يمكن التزحزح عنه (وليس بعيدا عن الأذهان دعوة السيد الرئيس في هذا الشأن بعدم “الدغمسة” في مسألة الهوية عشية إنفصال الجنوب). إن مغادرة منصة الدفاع عن الهوية العربية الإسلامية وفرضها في السودان ــ حتى ولو على مستوى التناول الشفاهي في هذه المرحلة ــــ إلى نقطة الإعتراف بواقع التعدد وإستلهام التاريخ في عملية بناء الهوية، لهي قفزة جد كبيرة لقوة سياسية اعتمدت في أساسها النظري ولعقود طويلة على حدية مسألة الهوية العربية الإسلامية وفرضها في واقع التعدد على أسنة الرماح. ومرة أخرى إن المحاكمة لهذه المقولة والزحرحة التي طرأت على موقف المؤتمر الوطني في هذه النقطة بالذات، لا تؤكدها لنا الخطابات الظرفية، بقدرما أن السياسات العميقة والطويلة الأمد لمعالجة مثل هذه الإشكاليات الأساس. من الجيد لفت الإنتباه إلى هذه النقطة وتقدير الموقف الشجاع في إادة طرح قضية مركزية وحدية في الفكر الأصولي المدرسي كقضية الهوية والإعتراف فيها “بتاريخيتها” ، لكن من المهم أيضاً المضي قدماً في إعادة الإعتبار وتنفيذ هذه “التاريخية” على الواقع الاجتماعي. لا نعتقد أن مثل هذه القضية ستمر بالسهولة التي قيلت بها في الخطاب، لأن هناك تراتبيات إجتماعية ومصالح إقتصادية تأسست على الفهم القديم، لن تتحطم هكذا بضربة لازب. (3) وأخيراً وليس آخراً: لماذا هذا الخطاب بأركانه الأربعة في هذا التوقيت بالذات؟ أشرنا في مقال سابق نشر بالعديد من المواقع الالكترونية حمل عنوان: ” التغيير والتسوية بين الواقع والأحلام” ، إلى أن التغيير عبر الثورة/الإنتفاضة في الواقع السوداني المعقَّد حالياً قد لا تفضي إلى تغيير جذري في قيم، ثقافة، مؤسسات وهياكل الدولة الحالية، إنما ــ وفي أحسن الشروط ـــ قد تفتح الباب على مصراعيه لإعادة تدوير/إنتاج تاريخ أخطاء حركات التغيير في السودان على النسق الذي تمت به في الماضي (أكتوبر 1964 وأبريل 1985)، ذلك على خلفية تحليل الواقع السوداني الراهن وعناصره المحركة للصراع. وبالتالي؛ كانت فرضيتنا تقوم على أساس أن التسوية المحكومة بإعادة النظر في الكثير من المفاهيم المنمطة في تاريخ التجربة السياسية في السودان، مثل مفهوم “الفترة الإنتقالية” وتمديدها لتصبح مرحلة إنتقالية مربوطة صميمياً بإنجاز مهام ترسيخ قضية التداول السلمي للسلطة أكثر من كونها جسراً للعبور لديمقراطية مفخخة، معالجة القضايا الإقتصادية عبر إعادة توطين المؤسسات الإقتصادية أولاً وقبل البدء في محاصصات التنمية المتوازنة والبرامج الإجتماعية المعنية بمعالجة الغبونات التي أفرزها الإنقسام الاجتماعي القائم على الصراع حول الهوية وأخيراً البناء الدستوري المتفق عليه والمعبر عن كل الكيانات الإجتماعية. أن ما يُستشف من الخطاب هو أن هنالك إتجاه نحو تسوية، وبالتالي نسأل هي تسوية بأي معايير؟ ولصالح من؟ الشاهد أن الخطاب تزامن مع أو تلى عدة خطوات تمت خلال الفترة الماضية، بدأت بتغييرات شملت شخوص كانوا بمثابة أعمدة للنظام الحاكم (المؤتمر الوطني) وفي ذات الوقت مثلوا آخر المغادرين من كادر الحركة الإسلامية الرئيسي لسفينة النظام الغارقة، وقد تم كل ذلك دون ضجيج على السطح، فأصبح النظام بتركيبته الحالية في قبضة عسكرتاريا بصورة قد تكون شبه كلية. بالإضافة لمقترحات لوحت بها كثير من الجهات المرتبطة بمراكز صناعة القرار على المستوى الدولي والإقليمي، والتي طرحت بصورة غير مباشرة مقترح “الحل الناعم” Soft Landing للأزمة السودانية تمثلت في: تسوية ما بين الحكومة وخصومها من الحركات المسلحة والأحزاب السياسية بالداخل، مضمونها أن تتكون حكومة قومية إنتقالية ذات تمثيل قاعدي عريض من كل ألوان الطيف السياسي، زائداً الحركات المسلحة. يترأس حكومة المرحلة الإنتقالية هذه البشير على أن لا يتقدم للإنتخابات في الفترة التي تلي المرحلة الإنتقالية، مقابل أن تضمن له “مراكز صناعة القرار” ــــ التي أشرنا إليها ـــ بشكل أو آخر عدم الخضوع للمسائلة القانونية أمام محطمة الجنايات الدولية ICC وتوفير ملاذ آمن له للتقاعد. إن هذه الملابسات التي بدأت مع التسرب الهادئ والهروب تحت جنح الظلام، أو فلنقل إفراغ الحكومة من كادر الحركة الإسلامية عبر ما سُمي بالتغييرات الأخيرة، مقروناً مع خطاب البشير المفارق للأسس التي إنبنت عليها تجربة الإنقاذ، كلها تصب في خانة التسوية المفروضة وتتسق مع رؤيتها وخطوطها العريضة، كما تصورها أو تريدها هذه المراكز، وتجعل وبالتالي لهذا الخطاب معنى من هذه الزاوية فقط. ومع الملاحظات الدقيقة لحيثيات خطاب الرئيس من حيث الشكل والمضمون والتوقيت، المدعويين، والترتيبات البرتوكولية وأخيراً زيارة الرئيس الأمريكي الأسبق جيمي كارتر للسودان، يبدو أن البشير قد إلتقط القفاز وطرح مبادرته المضمنة في الخطاب معلناً حالة أصطفاف جديدة وعلى أسس وقواعد جديدة بعد أن ضمن سلامته وسلامة رفاقه القدامي. تبقت نقطة أخيرة هي: من الذي سيتجرأ ويتسلم قيادة السودان بعد أن قررت الإنقاذ مغادرته وقد أحالته حطاماً على كافة الأصعدة؟؟؟ يبدو أن الشخص الوحيد الذي سوف لن يتردد أو يتلجلج في قبول الطلب هو السيد الصادق المهدي والمؤشرات على ذلك كثيرة نبدأها من مواقفه المخذلة لمصادمة النظام، إستلامه للأنواط والنياشين من الشخص الذي أطاح به من السلطة، ورقته التي طرحها مؤخراً للحل والأضواء التي أحاطت به وبنجله من الناحية البروتكولية في محفل خطاب البشير. وختاماً نعود لمقولتنا المستلفة من الروائي ماركيز التي صدرناها في البداية، هل بالفعل عاد البشير بعد ما يقرب الربع قرن ليكتشف فضائل البساطة؟؟ لأن ما طرحه ليس بالجديد على المستوى المفهومي أو السياسي في الثقافة والتاريخ السياسي المعاصر للسودان، إذن ليس هناك إكتشافاً جديد على المستويات المذكورة، بل على المستوى البنيوي للسلطة والتي يبدو أن ملامحها الطافية في السطح، وعلى خلفية الخطاب الرئاسي، أن الإصطفاف العروبي الإسلاموي الجديد قد بدأ على أرضية الخطاب العلماني المسروق بعد إنهيار الخطاب الديني وبيان فساده وتخلفه عن الواقع والتاريخ..إننا بحق أمام أول أعتاب مرحلة جديدة للإسلام السياسي في شكله الجديد مطابقة لما قاله محمد أركون عن إنكشاف الرهانات الزمنية لقوى الإسلام السياسي عندما إصطدام خطابها مع السلطة.