ما بين منهج التحليل الثقافي والأيديولوجيا وتحرير النفوس

ما بين منهج التحليل الثقافي والأيديولوجيا وتحرير النفوس
============================
محمد جلال أحمد هاشم

توجد هناك ثقافات عربية وثقافات إسلامية عدة في اماكن عديدة في العالم، منها مناطق عديدة أيضا في السودان. هذه الثقافات لديها ما تلتقي فيه، وما تختلف فيه، ومع هذا تبقى في حالها كثقافات عربية وإسلامية. الثقافات تنتقد. ولكن لا تدان، دع عنك أن تحارب. وكذلك الشعوب تنتقد، ولكن لا تدان. فمن أدان شعبه، فقد أهلية الانتماء لهذا الشعب. وعليه لا يجوز الوقوع في الالتباس والنظر إلى ما نقوله على أنه معاداة لأي من الثقافتين العربية أو الإسلامية، هذا بينما نعيش جميعا تحت ظلال هاتين الثقافتين، مستصحبين في ذلك ثقافاتنا الأفريقية ومعتقداتنا الاخرى. فجميع حزام السودان من البحر الأحمر إلى المحيط الأطلنطي، ثم جميع شعوب شرق أفريقيا تعيش تحت التأثير المباشر لهاتين الثقافتين. وليس أدل على هذا من ان الآن نكتب ونتكلم باللغة العربية. ولهذا جاء قولي مرارا وتكرارا من أني كنت سأحارب بأسنة الرماح إذا ما حاولوا حرماني من انتسابي لكلا الثقافتين العربية والإسلامية، او حرماني من حق استخدام اللغة العربية. فهذه، كما قال أحد قادة التحرر الأفريقي، ليست منّة من احد، بل هي غنائم حرب استحققناها عبر حروبنا الثقافية والحضارية النبيلة التي خضناها بكل شرف. وليس أشرف وأكرم من هذه الحروب، إذ تخرج فيها جميع الأطراف منتصرة.
بجانب هذا، توجد أيديولوجيا إسلاموعروبية – لاحظ: «عروبية» وليس «عربية»، وهي أيديولوجيا واحدة كيفما تعددت مواقعها الجغرافية والإثنية. الأيديولوجيا في تعريفها العلمي ليست متطابقة مع الفكر، بل تعمل في اعلب حالاته ضده. فالفكر يعمل على تحقيق الاستنارة ورفع الوعي، بينما تعمل الأيديولوجيا على تزييف الوعي، وقد تصل درجة موغلة في الإجرام عندما تقوم بتبرير أفعال وحشية مثل القتل الوحشي والمجّاني، اكان ذلك للأعداء او للمدنيين، لا فرق، ثم والتمثيل بالجثث .. إلخ، دع عنك العنصرية وادعاء الاستعلاء على الآخرين … إلخ.
إذن فهناك أيديولوجيا إسلاموعرولية واحدة في كل زمان ومكان، بينما هناك ثقافات عربية وثقافات إسلامية في مختلف مناطق العالم، وليست جميعها متطابقة. وهذا تفريق مهم يجب وضعه في الاعتبار، ألا وهو الفرق لين الثقافة من جانب، وبين الأيديولوجيا من الحانب الآخر.
الأيديولوجيا الاسلاموعروبية ولّدتها القطاعات المهيمنة من العرب لحظة وجدوا أنفسهم في مواجهة شعوب أخرى نافستهم في السلطة، خاصة بعد ان اعتنقت هذه الشعوب الدين الإسلامي. وتعمل هذه الأيديولوجيا – شأنها في ذلك شأن جميع الأيديولوجيات في العالم – على تزييف الواقع وتغريب المرء عن واقعه، بما في ذلك العرب أنفسهم، كونها تشتغل عبر تناقضين إذ تجعل من العروبة هوية سامية فوق الهويات الأخرى ومنغلقة على عرق بعينه من ناحية، ثم من ناحية أخرى تستخدم الإسلام لتجعله عربيا بحيث ينبغي استعراب كل من يسلم من غير العرب، وذلك عبر عدة مغريات مزيّفة مثل «كل من نطق بالعربية فهو عربي». وهكذا يدخل غير العرب في الإسلام طمعا في أن ينالوا صكوك العروبة، ثم سريعا ما يكتشفون استحالة ذلك ما لم يستوفوا شرطا آخر، ألا وهو ان يتماهوا في هذا الوعي الأيديولوجي بأن يوهموا أنفسهم قبل الآخرين بأنهم عرب العرب (لاحظ ما قاله في بداية الستينات صلاح أحمد إبراهيم «نحن عرب العرب»)، مستخدمين في هذا عدة حيل، منها اصطناع الأنساب، وتحرّي سمرة اللون عند العرب (في أفريقيا مثلا يستندون على إفادات تاريخية فحواها أن العرب الأصليين كان لونهم أسمر) … إلخ.
تعمل هذه الأيديولوجيا على تكريس تفوق العرب عرقيا على ما عداهم من شعوب. وبخاصة الشعوب الإفريقية السوداء من ناحية عرقية، ثم على كل الشعوب الأخرى غير المسلمة من الناحية الأخرى بما فيهم العرب غير المسلمين. للخروج من هذا المازق، ولرفع نير التمييز السلبي عن رقابهم، راد المسيحيون العرب في الشام (ضمن عوامل أخرى) حركة القومية العربية في مواجهة القومية الإسلامية التي دعا لها الأفغاني (غير العربي) قبل ذلك بعد عقود، يشايعه فيها محمد عبده.
تستند الأيديولوجيا الاسلاموعروبية على عاملين، ترفيع العرب عرقيا، مع ازدراء الأعراق الأخرى (خاصة الشعوب الأفريقية السوداء حيث تعامل معاملة العبيد)، ثم تعريب الإسلام بحيث لا يصح إسلام المرء إذا لم يستعرب، وذلك عبر التكتيكات التي شرحناها.
تكمن خطورة هذه الأيديولوجيا في تزييفها للواقع عندما يخضع لها أناس سود اللون مثل حال غالبية السودانيين، ثم يحدث لهم تماهي كبير لدرجة أن ينظروا لأنفسهم على أنهم ليسوا فقط عربا (قد تكون هناك وشائج)، بل هم عرب العرب. خذا بينما تاريخهم القريب يشخد بعكس ذلك (مثل دنقلاوية صلاح أحمد إبراهيم) دع عنك سحنة اللون. ثم تبلغ العماية بهؤلاء القوم درجتها القصوى من التماهي عندما يمارسون ذات مواقف الاستعلاء العرقي على أناس آخرين ينتنون لهم في الوطن والعرق والثقافة والدين واللون الأسود. ماذا يعني هذا؟ إنه يعني أن ينظر السوداني الأفريقي الأسود اللون الذي استعرب عبر العقود والقرون وفقد لغته الأفريقية، لأخيه السوداني الأفريقي الأسود اللون الذي لم يستعرب بعد ولا يزال يتكلم لغته الأفريقية، على أنه عبد لمجرد اختلاف طفيف في اللون، أو لمجرد ان له لغته غير العربية. فهذا السوداني الأفريقي الأسود اللون المستعرب يتبنى هنا ذات السلوك والمعايير التي ستجعل منه مجرد عبد في نظر العرب العاربة إذا ما حملته أقدامه إلى الجزيرة العربية (وطبعا لا نحتاج لضرب أي امثلة بخلاف ما شاهدناه وسمعناه في المشادة بين السعودي والطبيب السوداني، او ما قاله الفلسطينيون في السودانيين، وفي من يعتبر عند كثيرين منا بمثابة ابن الأكابر، مبارك الفاضل، عشية دعوته للتطبيع مع إسرائيل). فتبنّي الأيديولوجيا الإسلاموعروبية من قبل أي سوداني أفريقي أسود لمجرد الاستعراب تجعله منهزما ذاتيا، ذلك لأن المعايير التي يستخدمها للاستعلاء على إخوته من غير المستعربين هي نفسها المعايير التي يستخدمها العرب العاربة ضد الأفارقة المستعربين، مسلمين او غير مسلمين.
في داخل الشأن السوداني، تشكّل الأيديولوجيا الإسلاموعروبية خطرا داهما على اللحمة الوطنية من جانب، وعلى دورنا في تجسير عالم الشعوب الأفريقية (الناطقة بالإنكليزية Anglophone والناطقة بالفرنسية Francophone) مع عالم الشعوب العربفونية Arabophone (أي الشعوب الناطقة بالعربية، لأني لا أؤمن بأن هناك شعوبا عربية كونها مختلفة الثقافات والأعراق، لكنها جميعا ناطقة بالعربية). فإذا كان السوداني الأفريقي الأسود الطي اكتملت حلقات استعرابه غير قادر على أن يتعايش في سلام مع اخيه السوداني الأفريقي الأسود الذي لم يستعرب بعد (كما رأينا في انفصال الجنوب ونرى ما يحدث الآن في دارفور ومناطق اخرى)، فإن العرب العاربة سوف تكون أعجز من أن تتعايش بسلام مع السوداني الأفريقي الأسود حتى لو استعرب ولبس العباءة والعقال (وفي الأمثلة التي ضربناها قبل قليل ما يؤكد هذا)، دع عنك السوداني الأفريقي الأسود الذي لم يستعرب بعد (العبد الأعجمي).
هذا ما نحاربه، وليس الثقافة، أكانت عربية أم إسلامية، وإلا وقعنا في شرك كبير وضللنا الطريق، طريق الثورة والتحرير. فمناط الثورة والتحرير هو أن نثور ضد الأوضاع القائمة على هذه الأيديولوجيا؛ ومناط التحرير هو تحرير قطاعات شعبنا الواقعة تحت سطوة هذه الأيديولوجيا، لا إعلان الحرب على ثقافاتهم.
ومتى ما انتصرنا، كنّا نموذجا لحركات تحرير أخرى في شعوب ظلت تعاني من نفس هذه الأيديولوجيا الإسلاموعروبية، بما في ذلك الشعوب العربية نفسها.
وهنا نجد أنفسنا نلتقي تماما مع جون قرنق عندما قرن الثورة مع التحرير وبالتالي أصبحت هذه العملية مركبة (الثورة والتحرير). ففي الماضي كانت الثورة فقط بما تعني التحرر من الهيمنة عبر الانفصال عنها، بما يعني عمليا تحرير الأرض واكتساب الاستقلالية من الدولة المهيمنة، أكان ذلك عبر الغلبة أو عبر تقرير المصير (وهنا السؤال التالي: تحرير ماذا؟ والإجابة: تحرير الأرض). أما عند قرنق، فالموضوع مختلف، فهو الثورة مع التحرير. والتحرير هنا لا يقصد به تحرير الارض، بل تحرير العقول والنفوس لخلق الروح الوطنية الحقة (وهنا السؤال: التحرير من ماذا؟ والإجابة: التحرير من عقلية التفوق العرقي وجميع النظرات الاستعلائية الدونية معا، ذلك لاشتراطهما معا).
هذا هو ما ننادي به في نقدنا الثقافي عبر منهج التحليل الثقافي وصراع الهامش والمركز.
مع شكري وتقديري،،،
محمد جلال أحمد هاشم