اختزل رئيس مركز الدراسات السودانية، المفكر والكاتب السوداني والناقد السياسي المعروف حيدر إبراهيم علي، تجربة الإسلام السياسي في السودان في كونها السبب الرئيس لكلّ الأزمات التي لحقت بالبلاد منذ الاستقلال إلى غاية كارثة استيلاء الإسلاميين على السلطة منذ ربع قرن في 30 يونيو 1989.
قال حيدر إبراهيم علي، في حوار مع “العرب اللندنية”، إنّ وجه السياسة في السودان تغيّر مع عودة بعض الطلاب السودانيين الذين درسوا في مصر، مُحمّلين ببذور حركة الإخوان المسلمين في مطلع الخمسينات، حيث كانت الحركة في مصر تعيش أكثر فتراتها عنفا، وقتها شعروا باقترابهم من الانقضاض على السلطة، وحاجتهم إلى قدر قليل من تصعيد “جهادهم”، فلجأوا إلى الاغتيالات، وكان أخطرها وآخرها اغتيال النقراشي باشا، وكانت النتيجة هي الانتقام بقتل المرشد العام حسن البنا وحلّ تنظيم الإخوان المسلمين.
أوضح المفكر السوداني أنّ الإخوان المسلمين في السودان نشأوا منذ مطلع خمسينيات القرن الماضي بهذه الخلفية، قائلا لقد “اكتسبوا من الحركة المصرية الأمّ صفات محدّدة ظلت تلازمهم حتى اليوم، وهي صفات العنف والتآمر مع ضعف فكري واضح لأنّ الحركة اعتمدت فقط على شعارات تدغدغ المشاعر الدينية لدى البسطاء”.
وأبرز إبراهيم علي أنّ الإدارة الاستعمارية والقوى التقليدية في السودان رأتا في الجماعة وقتها ما أسمته “ترياقا” ضد المدّ اليساري والشيوعي الذي ميّز الفترة الأخيرة من نشاط الحركة الوطنية السودانية. فقد كانت القوى الحديثة ابتكرت أدوات تنظيمية جديدة في الكفاح ضد الاستعمار مثل الاتحادات الطلابية ونقابات العمال وروابط المزارعين واتحادات المرأة والشباب.
وكانت المهمّة الأولى للإخوان المسلمين آنذاك هي العمل على إفشال هذه التنظيمات أو اختراقها، بدعوى مناهضة الشيوعية أو وقف النفوذ الشيوعي. وهكذا نشأت حركة الإخوان المسلمين وهي خادمة للأهداف الاستعمارية بقصد وأحيانا بلا وعي، ولكن النتيجة في المحصلة واحدة.
وفي حديثه عن تجربة الإسلام السياسي، أكد الدكتور حيدر أنها أدخلت السودان في نفق مظلم استنزف طاقات السودانيين السياسية والفكرية، مبكرا منذ فجر الاستقلال، فقد حشد الإخوان في نهاية عام 1955، مباشرة بعد إعلان الاستقلال من داخل البرلمان، أغلب القوى الدينية في هيئة تدعو إلى الدستور، ووصف الفكرة آنذاك بأنها غامضة، قائلا إنّهم لم يقدّموا مطلقا مشروعا دستوريا إسلاميا مفصلا، واكتفوا حتى اليوم بالقول إنهم يطبقون الشريعة الإسلامية وهي في حقيقة الأمر القانون الجنائي الذي صاغه ثلاثي (النميري) في سبتمبر 1983.
وفي رأي رئيس مركز الدراسات السودانية، ظل السودان يدور في هذا الجدل العقيم حول إسلامية الدستور، حسب الفهم الإخواني، وتسبّب ذلك في تعطيل النقاش حول التنمية والوحدة الوطنية والسلام والديمقراطية. وأسبغ الإخوان وحلفاؤهم التقليديون على كل من يدعو إلى هذه القضايا بسمة الشيوعية، وهو ما يسمونه اليوم بالعلمانية، وقد نجح الإخوان في صرف أنظار الشعب السوداني عن قضاياه الحيوية.
المفكر السوداني شنّ هجوما عنيفا على حسن الترابي عراب الإسلاميين في السودان، وقال ما يميز أيّ مفكر هو الاتساق بين القول والفعل أو الفكر والممارسة، وحتى القرآن الكريم يقول: “وكبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون”، وتابع “لقد تحدث الترابي كثيرا عن الحرية والديمقراطية والتسامح، ولكنه عندما وصل إلى السلطة انتهك كل هذه القيم، وأشار إلى أنه قام بتنفيذ أفكاره من خلال الدبابة وتدخل العسكر، بينما سلاح المفكر هو الفكر والكلمة والحوار، مضيفا أن الترابي سياسي مكيافيلي ويرى أن الغاية تبرر الوسيلة، وبالتالي لا يوجد مفكر بلا قيم ومبادئ ثابتة.
وحول شخصية الترابي قال حيدر: “إن الترابي يحب النجومية والأضواء ولا يستطيع العيش بعيدا عن الاهتمام، وعندما يشعر بأنه في الظل، يفرقع التصريحات أو يطلق فتاوى مثيرة للجدل وكأنه يقوم بعمليات استريبتيز سياسية أو فقهية”، وأضاف أن السياسة البراغماتية الفائضة لدى الترابي، أضعفت من حسه الإنساني والعاطفي، فهو لو فكر إنسانيا لم يكن ليقبل ببيوت الأشباح في بدايات حكمه، ولكن رأى التعذيب مبررا لتحقيق غاية عظيمة هي تمكين الحكم الإسلامي.
ويشير المفكر السوداني إلى أن طريقة وصول الإسلاميين نفسها إلى السلطة من أهم أسباب فشل المشروع الإسلاموي، فالمشروع لم يأت نتيجة إرادة شعبية، بل جاء بطريقة غير شرعية وظل حتى اليوم نظاما غير شرعي رغم دساتيره المفبركة وانتخاباته المزوّرة.
وأضاف “بسبب فقدان الشرعية لجأ النظام إلى التعذيب وإذلال الشعب السوداني بطريقة لم يعرفها السودانيون حتى أثناء فترات الحكم الاستعماري، ورغم ذلك لم يستطع النظام اكتساب شرعية أو توسيع قاعدته الشعبية، وشغلته العزلة الداخلية والخارجية عن الالتفات إلى هموم الشعب الحقيقية ومشكلاته الملحة.
وأوضح أنّ أسباب فشل المشروع الإسلامي في السودان أيضا غياب رؤية للحكم، وبالتالي عدم وجود برامج وخطط قابلة للتنفيذ، قائلا إنّ “حركات الإسلام السياسي في عمومها، يمكن أن تكون معارضات قوية وناجحة، ولكنهم حكام فاشلون وذلك لاعتمادهم على يوتوبيا غير واقعية ولا تاريخية يسمونها الدولة الإسلامية المعاصرة، وقد اصطدمت كل شعاراتهم بالواقع السوداني المعقد”.
واستطرد: “واجه الإسلام السياسي قضايا كان يدّعي وجود حلول لها مثل وضعية غير المسلمين داخل الدولة الإسلامية، والاقتصاد والتنمية، والمرأة. ثمّ كان من أكبر مظاهر الفشل تحويل الصراع بين الشمال والجنوب إلى حرب دينية بإعلانه الجهاد ووعد المقاتلين بالجنة والبنات الحور، وتسبّب كل ذلك في تصاعد العنصرية بين الشباب وانتشار الهوس الديني، وانتهى الصراع بأكبر جريمة أو خيانة وطنية تمثّلت في فصل الجنوب، وفتح الباب أمام مطالب تقرير المصير في أجزاء أخرى من الوطن”.
وحول الاقتصاد في تجربة الإسلاميين في السودان قال حيدر: “اتضح أن ما يسمى بالاقتصاد الإسلامي هو كذبة أو خرافة كبرى روجت لها دوائر التبعية للاقتصاد الرأسمالي والنشاط الطفيلي في السوق، فقد تبنى الإسلامويون في السودان الخيار الرأسمالي التابع في إدارة اقتصاد البلاد، بدءا من الخصخصة التي تم من خلالها بيع أغلب القطاع العام لتجار الجبهة الإسلامية بلا عطاءات ومنافسة حقيقية طبقا لقوانين السوق.
ومن ناحية أخرى ذكر الباحث أن نسبة من يعيشون تحت خط الفقر قد زادت، كما تضرب المجاعة بصورة دورية مناطق عديدة من السودان، كثير منها كان مكتفيا ذاتيا من الطعام، وتدنى مستوى المعيشة بين فئات اجتماعية واسعة، كما اختفت الطبقة الوسطى من الخريطة الاجتماعية”.
ويرى رئيس مركز الدراسات السودانية أن الفشل الأكبر لهؤلاء المتأسلمين، كان في العلاقات الدولية، قائلا: “حاول الترابي بفهلوته السياسية ابتزاز الغرب بالتقارب مع عناصر مثل بن لادن وكارلوس، ولكن حين شعر أنّ الغرب سوف يتعامل معه بحسم وجدية، سرعان ما تراجع عن بهلوانيته السياسية وقام بطرد بن لادن وتسليم كارلوس إلى فرنسا، وأوقف عمل ‘المؤتمر الشعبي العربي الإسلامي’ الذي كان يخطط ليقيم منه أممية إسلامية (إسلامنترن) تنطلق من الخرطوم”.
وتابع: “لكن بعد المفاصلة وإبعاد الترابي تخلى الإسلامويون عن كل هذه الأحلام الطفولية، بل سعوا منبطحين لكسب ود الولايات المتحدة الأميركية، وفي صفقة علنية قام الفريق صلاح قوش مدير المخابرات بزيارة لوكالة المخابرات الأميركية في مقرها، وسلّمها ملفات وقوائم بكلّ الجماعات الإسلامية التي تعامل معها السودان، ولكن الطرف الأميركي لم يرد الجميل بمثله، وظل السودان مدرجا في قوائم الدول الداعمة للإرهاب. وعلينا ألّا ننسى أن الرئيس السوداني عمر حسن أحمد البشير هو الرئيس الوحيد في التاريخ، المطالب من المحكمة الجنائية الدولية وهو مازال في السلطة”.
وحول تصنيف الجماعة الإسلامية منظمة إرهابية، أكد حيدر أن هذا سيؤثر بالتأكيد في الإسلامويين السودانيين، رغم أنّ الترابي ظل على خلاف قديم مع قيادات التنظيم الدولي بسبب طموحه غير المحدود، فهو لم يكن يرضى بشخصيات قيادية إخوانية منذ زمن سعيد رمضان. وهذا رغم أنّ أحد الإخوان المسلمين السودانيين، وهو عثمان خالد مضوي، عمل في جنيف في مجلة التنظيم “المسلمون”، حيث كان الترابي يعارض ما يسميه “سيطرة مصرية” على التنظيم، ناسيا إسلاميته ومغلّبا قوميته. وقد شرح الإسلامي الكويتي عبدالله فهد النفيسي هذا الخلاف في كتاب جماعي قام بتحريره عام 1989 تحت عنوان: “الحركة الإسلامية: رؤية مستقبلية”.
وأشار المفكر السوداني إلى أن تغيّر الموقف كان بعد الضربة التي تلقاها الإخوان المسلمون في مصر، رغم محاولات قطر وتركيا توحيد الحركة الإسلامية، وتابع: “في السودان، شعر الإسلامويون بالخطر وهم يتعاونون مع فلول الإخوان المصريين ويستقبلونهم في معسكرات إلى غاية تحديد الجهة التي يريدون الذهاب إليها”. كما يتهم السودان بكونه قد صار ممرّا للسلاح لحماس في غزّة، مؤكدا أنّ هذه التداعيات الأخيرة تجعل السودان ليس بعيدا عن أيّ إجراءات ومواقف لتنفيذ قرار اعتبار الإخوان المسلمين جماعة إرهابية.
أكد حيدر أن نظام البشير الآن في أضعف حالاته وأسماه دولة “أمنوقراطية”، فهي تحكم عن طريق جهاز الأمن فقط، بلا حزب حقيقي ولا أيديولوجيا ولا خطط أو برامج، متابعا: “صارت النخبة الحاكمة أقرب إلى تنظيمات المافيا الإيطالية تربطها المصالح والامتيازات. لذلك، انتشر العنف الغامض في الفترة الأخيرة، مثل اغتيال رجل الأعمال هاشم سيد أحمد والاعتداء علي الصحفيين عثمان ميرغني وحيدر أحمد خيرالله”، موضحا أنّ “استمرار النظام ليس بسبب قواه الذاتية، ولكن بسبب عجز المعارضة عن توحيد صفوفها وتحريك الشارع ضده. لم تبدأ المعارضة مرحلة المواجهة والمقاومة وبقيت في حالة دفاع، وتركت المبادرة للنظام رغم ضعفه وتآكله”.
وحول دور المثقفين في الواقع السياسي أكد دكتور حيدر أهمية دورهم الفكري والتنويري، في مساعدة السياسيين الناشطين في تنظيم الجماهير التي كونت وعيا بمصالحها الحقيقية، وقال من المفترض أن تقوم منظمات المجتمع المدني بالارتقاء بدور المثقفين السودانيين، وقد حاولنا ذلك من خلال النشر والندوات والمؤتمرات واستضافة المثقفين غير السودانيين للحوار وتبادل الخبرات، وتشجيع الإبداع الفني عبر مركز الدراسات السودانية الذي واجه حربا شرسة من جهات عديدة، وأضاف “لابد من أن يشعر المثقفون السودانيون بعظم مسؤولية نهضة الوطن، فهو الآن على بعد خطوات من الانهيار والكارثة. فهم مطالبون بالجدية والصدق والمثابرة وحسن تقدير الواجب”.
وأكد حيدر أن لا مستقبل للإسلام السياسي عموما في العالم، وشدد في إجابته على أن هذا ليس انفعالا ولا ردّ فعل، فقدْ فقدَ الإسلام السياسي مقوّمات تطوّره بل بقائه، والأسباب عديدة جمعها في خسران رأسماله السياسي والفكري بضرب الإخوان في مصر، وفقدان الرأسمال المالي والاقتصادي مع محاربة المملكة العربية السعودية وبعض دول الخليج العربي، موضحا أن هذه هي أهم مصادر قوة التنظيم سياسيا وماديا، إضافة إلى ظهور حركات مثل “داعش” التي قدمت نموذجا مسيئا للإسلام، وضعتهم في حرج ومأزق، إلى جانب تجاربهم في الحكم منذ باكستان ضياءالحق ثم طالبان والسودان وإيران، حتى مصر مرسي وبديع، كلها أثبتت عدم قدرتهم على تطبيق الديمقراطية حين يكونون في السلطة.
الفجر الاليكترونية