المفكر السوداني دكتور حيدر ابراهيم
“لو كانت الأشياء والأمور كما تبدو أو تظهر لنا، لم كانت هناك حاجة للعلم”. على هدي من هذه المقولة تبدو المجتمعات العربية-الإسلامية شديدة التدين في مظهرها الخارجي المعلن، وهذا يعطي الانطباع والشعور أننا في مجتمعات عالية الأخلاق، وراقية السلوك.
فقد بشّر الرسول الكريم أنه أتى ليتمم مكارم الأخلاق. كما أن الإسلام يذكر دائماً أن العبادات ليست مطلوبة في حد ذاتها، فهي وسائل لغايات أنبل، علي سبيل المثال: “إن الصلاة تنهي عن الفحشاء والمنكر”.
تبعاً لهذا الفهم للدين ومقاصده يحتار المرء حين يلاحظ هذه العلاقة الطردية بين زيادة أعداد المتدينين، وقد تكون نتائج الانتخابات الأخيرة والتي أظهرت تفوق الإسلاميين مؤشراً على ذلك، وبين زيادة نسب ومستوى التحرش الجنسي في الشارع العربي. وهذا لا يعني بأي حال من الأحوال أن أيّ متدين هو بالضرورة مشروع متحرش بسبب هذه العلاقة الطردية. بل المقصود العكس تماماً، كان يفترض أن تكون العلاقة عكسية بين التدين والتحرش أي أن يكون التدين عاملا مساعداً في تراجع وتناقص حالات التحرش الجنسي في الشارع العام. ولكن كيف نفسر هذا الوضع المعكوس والمحير؟
يذهب الذهن مباشرة إلي شكلانية التدين أي الاهتمام بالشكل والمظهر الخارجي، بالإضافة للأجواء والمشهدية الدينية مثل كثرة المساجد، والمحطات الفضائية الدينية، والجامعات والمعاهد والبنوك الإسلامية. فقد انتشر هذا التدين الشكلاني في فترة العولمة الكاسحة، وهذا ما أجبره علي الإندماج في المجتمع الاستهلاكي وقيم السوق. وأقرب مثال لتلك التشابكات، ظاهرة انتشار الحجاب. فمن المعلوم، أن الحكمة من مشروعية الحجاب هي الستر والعفة وليس الاستعراض، ولكن الحجاب دخل صالونات الموضة، وصار منافساً في مباريات الأناقة والجاذبية مما أفرغه من مضمونه ومقاصده الشرعية. كما تتنافس الصين واليابان في انتاج” اليكترونيات الصلاة” من منبهات بأصوات المؤذنين، وبوصلات ومسابح مضيئة.
وعلى مستوي آخر من حيث الإهتمام بالكم الديني وليس الكيف والمضمون، يلجأ بعض منظري الإسلام السياسي للإحصائيات والنسب لإثبات انتشار التدين. ففي السودان، يحاول منظرو النظام دحض تهمة فشل التجربة الإسلامية من خلال إثبات زيادة بناء المساجد وتضاعف أعداد المترددين عليها. وهذا معيار بديل لقياس نجاح التجارب الإسلامية يستخدم عوضاً عن مؤشرات متوسط دخل الفرد، أو الناتج القومي، أو توزيع الحاجات الأساسية.
انتشر التدين الشكلاني، لأن العودة للدين أو التدين في بعض المجتمعات لم تكن طبيعية، أي نتيجة أسباب ذاتية خاصة بتطور كل مجتمع وتلبية لوظائف اقتضتها ظروفه. ولكن هذا التدين كان مصطنعاً ومفروضاً بل أحياناً اجبارياً بسبب ظروف الهجرة لبلدان تتبني وتعيش هذا النمط من الممارسة الدينية. فقد استورد العاملون في تلك البلدان هذا الإختيار أو الاجتهاد الجاهز في التدين، وجاءوا به إلى أوطانهم. ولم يكلفوا أنفسهم عناء البحث عن تدين يقوم على اجتهاد ديني عصري ومتقدم. وهكذا، وجد التدين الشكلاني الساحة خالية فتمدد، خاصة وأن متطلباته سهلة ونمطية لا تتطلب كثيرا من التفكير والشك.
ومما ساعد في انتشار وغلبة التدين الشكلاني، النظام التعليمي القائم والثقافة الركيكة السائدة. فالمناهج التعليمية لا تهدف لبناء عقول نقدية لدى الأطفال والشباب، وهذا ما يتمناه التدين الشكلاني: عقول الحفظ والتلقين. وفي المستقبل يردد أصحاب هذه العقول: اللهم أعطني إيمان العجائز! أمّا الثقافة، فلم تعد جادة، تنهل من الكتب والمسارح ودور العرض والمتاحف، بل تكتفي بالمسلسلات، وأحاديث الدعاة والوعاظ.
ومن الأسباب الحاسمة في إنتشار التحرش الجنسي إلي جانب هيمنة التدين الشكلي: النظرة السائدة للمرأة. وقد ساهم التدين الشكلاني بدوره أيضا في ترسيخ وتعميم النظرة الدونية والشهوانية للمرأة، والتي جعلت من المرأة غريزة تمشي علي قدمين أو “كومة من اللحم”، كما وصفها مفتي استراليا.
فإذا كنا نتهم الغرب بأنه يعاني من “الإسلاموفوبيا”، فعلينا الاعتراف بأننا نعاني من “المرأة- فوبيا”. ومن يتابع الأسئلة الدينية، والفتاوى، ومواعظ الدعاة الجدد والشيوخ، يحسب أن هذه الحياة لم يعد فيها غير الجنس، والشهوة، والاغراء، والغواية، والشيطان ثالثهما، وامرأة العزيز وكيدهن عظيم. ويظن صناع هذه الثقافة أنهم يحمون الشباب من شرور المرأة، ولكن هذا التركيز الذي فاق عن حده، لابد أن ينقلب لضده. وبالفعل صار العقل المسلم مهجوس ومشغول بالمرأة المثيرة والمغرية، وتوارت المرأة – الإنسان بسبب الصورة التي يقدمها سدنة الدين الشكلاني.
يعتبر التحرش الجنسي وفي حده الأقصى الاغتصاب، من أخطر آليات تغييب والغاء المرأة من خلال التخويف والإرهاب. فقد كان الحجاب والنقاب وسائل سلمية لإخفاء المرأة. ولكن المرأة رغم ذلك أثبتت وجودها في الفضاء العام، وخشية انفلات الأمور نتيجة الانتفاضات الشعبية التي كسرت حاجز الخوف لدي الجميع بما فيهم النساء، كان لابد من سلاح أكثر قوة. وهنا أخرجوا سلاحهم الجديد:التحرش الجنسي والاغتصاب وأيضا جرائم الشرف.
الخوف أن تستبطن المرأة اضطهادها وتدافع عنه. وفي هذه الحالة لا ينفع تمكين المرأة سياسياً مع إهمال التمكين الثقافي والفكري. فقد رأيت وزيرات ونائبات في البرلمان السوداني يقفن إلي جانب تعدد الزوجات. كما سمعت نساء يرجعن أسباب التحرش للزي الخليع والسفور والخروج إلى التظاهرات بلا مُحرم