الفكرة العلمانية وليدة التطور التاريخي الذي شهده المجتمع البشري ونتاج تحولات تاريخية أكدت حاجة البشر إلى إدارة شؤون الاجتماع والسياسة بأدوات وآليات عقلانية وأرضية وبالتعاقد الذي يقع الاتفاق عليه دون تدخل أي قوة متعالية. وكانت الثورة الفرنسية -وما تلاها- وبنيتها الفكرية والثقافية والقيمية هي التي آذنت بوجوب رفع القيود المادية والمعنوية المكبلة للإنسان بما فيها القيود التي فرضتها المؤسسة الدينية وضرورة إقرار حرية المعتقد والنظر إلى الدين باعتباره شأنا شخصيا ومسألة خاصة تحسم بين الإنسان ومعبوده، ولا دخل لأحد فيها، جماعة كان أو فردا.
إن العلمانية جاءت كنتاج تطور تاريخي وصيرورة حضارية عرفهما المجتمع الإنساني في أكثر ربوعه المعاصرة نضجا واستعدادا لنشوء الفكرة وتقبلها. ومثل سائر الأفكار الكبيرة في العالم؛ فهي تدخل ضمن الرصيد المعرفي الإنساني وتعدو صالحة للتعميم ما دامت تخدم مشروع التحرر والانعتاق وتسهم في رفع كابوس الظلم والاضطهاد، سواء تم باسم الله أو باسم “عبد الله”.
لم تكن العلمانية إذن فكرة مجردة مفصولة عن التاريخ، وعن التطور العلمي والتقني، والاكتشافات والاختراعات والسيطرة على الطبيعة، والتصنيع، والصراع الثقافي وصراع الطبقات، والثورة البرجوازية و العمالية، وقد باتت اليوم ركنا أساسيا من أركان البنيان الديمقراطي، وشرطا جوهريا من الشروط الضامنة لحقوق الإنسان والمواطنة. وفي ظل غيابها تسود أنظمة الاستبداد وتستفحل الطائفية والقتل على الهوية، وعلى الشبهة، يكفر الأحرار والمعارضون في الحملات الانتخابية، وتجيش “العامة” ضد أهل الفكر والرأي، المرشوقين بـ”الزندقة” و”الإلحاد” بل وضد أصحاب الديانات الأخرى، والمذاهب والطوائف المخالفة ووضعهم تحت طائلة التكفير.ـ..!!