إساءة استخدام التاريخ

(الأحداث لا تتكلم من تلقاء نفسها)
Facts do not speak by themselves

ويجب أن تعطى حجمها الحقيقي وأن لا تفصل عن سياقها وظرفها الزماني والمكاني عند سردها وتحليلها . . فالناس لا تقرأ التاريخ فقط لمعرفة ماذا حدث وإنما أيضا لماذا حدث وأهم هدف – في رأيي – من قراءة التاريخ هو عدم تكرار الأخطاء واستثمار التجارب من أجل بناء حاضر ومستقبل أكثر تسامحا وأكثر تعاونا واكثر تعاضدا بين البشر . هكذا ينبغي استخدام التاريخ – من وجهة نظري التي ترى بأن عكس ذلك هو إساءة لاستخدام التاريخ.

**
يقول (يواكيميذيس بانايوتيس) الاستاذ بجامعة أثينا وعضو المجلس الإداري لمعهد السياسة الخارجية والأوربية في مقالة له نشرتها صحيفة (نيا) اليونانية الصادرة بتاريخ 30 مارس 2007 ، أن منطقة البلقان (تنتج تاريخا أكثر بكثير مما باستطاعتها أن تستهلك) . هذه المقولة تصدق وتنطبق تماما على عالمنا العربي أي ببساطة نستطيع أن نقول ( العربان ينتجون تاريخا أكثر بكثير مما باستطاعتهم أن يستهلكوه أو بالأحرى يستوعبوه!) وعندما أقول “العربان” فأنا لا أعني إطلاقا العنصر العربي وإنما كل سكان تلك الرقعة من الأرض الممتدة من الخليج العربي (أو الفارسي.) . “سمه ما شئت فهو في النهاية على حد قول بعضهم ملك لأسماكه ، بالطبع لو بقيت هناك أسماك مع كل هذا التلوث النفطي أو فلأكن أكثر تحديدا هو ملك أساطيل الفرنجة”.

ونعود للأستاذ “يواكيميذيس” الذي قال مقولته تلك في معرض معالجته لمسألة التاريخ * وأحداثه وكيفية استيعابها وتحليلها بما يخدم بناء علاقات تعاون وتعايش وتفاهم بين الشعوب والثقافات المختلفة وليس استخدامه لإدامة جراحات الماضي وزرع الكراهية والخصومات وتحقير الآخر.

والتاريخ أوالسرد التاريخي للأحداث يستخدم لأهداف مختلفة ومقاصد متعددة . فلا وجود لتاريخ يكون موضوعيا بالكامل من غير أن يعني هذا أن المطلوب هو اصطناع أحداث لم تقع رغم أن الكثيرين يفضلون اختلاق الأحداث وتضخيمها .

المطلوب هو تفسير وتحليل الأحداث التي وقعت بالفعل . . كيف يتم ذلك هو مسألة علمية معقدة .وخطيرة للغاية إذا أوكلت المهمة للساسة ورجال الدين والصحفيين وكل من هبّ ودب . تفسير التاريخ وتحليله يرتبط باستخدام التاريخ .

أقول هذا بعد أن لاحظت كتابات تناولت أحداثا معينة في تاريخ أهل السودان لا بغرض تحليلها وفهمها واستيعابها كتجربة واستخدامها بما يعزز التفاهم والتعاون والتطلع إلى المستقبل وإنما بهدف نكأ جراحات الماضي وزرع الكراهية وتحقير الأخر. فالتاريخ (بصرف النظر وبعيدا عن مساهمته في تشكيل الهوية الوطنية) يمكن أن يستخدم بصورة سلبية ترسخ الخصومات والكراهية والإقصاء كما يمكن أيضا أن يستخدم بصورة إيجابية تشجع التعاون والتفاهم والتقارب بين الشعوب والقبائل والثقافات المختلفة وهذا هو دور من يتطلعون نحو المستقبل . . عليهم أن يدرسوا التاريخ وأحداثه بصورة عميقة من اجل عدم تكرار الأخطاء التي ارتكبت في الماضي.
إذا كنت قد ركزت في إعطاء المثال على السودان فإن أمثلة كثيرة يمكن أن يستدعيها المرء سواء في الحالة العربية/ العربية أو العربية الإسرائيلية أو العربية الغربية بالاضافة إلى الحالة العامة التي تعاني منها الكثير من الأقطار العربية في صراعاتها الاثنية والقبلية والطائفية الداخلية